تناولنا في الأسبوع الماضي مفهوم رفع سقف الدين الأمريكي ومبرراته
والإجراءات التي بدأت الخزانة الأمريكية في اتخاذها حتى تتمكن من استيفاء
التزاماتها حتى يتم رفع سقف الدين الأمريكي القادم، الذي يفترض أن يتم قبل
نهاية فبراير المقبل، والإشكالية الأساسية التي تواجه عملية رفع سقف الدين
المقبلة، فمن الواضح أن الصراع على عملية رفع سقف الدين هذه المرة سوف يكون
أقوى من الحالة السابقة في 2011.
فالرئيس أوباما يؤكد مرارا أنه لن يسمح بأي تفاوض حول رفع سقف الدين
قائلا إن مسؤولية الكونجرس هي في تمكين الحكومة من دفع فواتيرها، وقد حذر
الجمهوريون من أنهم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن يتحلوا
بالمسؤولية ويساعدوه على سداد التزامات أمريكا، أو أن يكونوا غير مسؤولين
ويضعوا الولايات المتحدة في أزمة اقتصادية أخرى، كما حذر هذا الأسبوع
الكونجرس من مغبة عدم رفع سقف الدين، وحث الأعضاء يوم الإثنين الماضي على
الإسراع برفع سقف الدين، مؤكدا على الأضرار المحتملة على الأسواق المالية.
من جانبهم يعترف الجمهوريون بأن مخاطر الفشل في رفع سقف الدين حقيقية،
ولكنهم يؤكدون أن آثار السماح بعدم حل مشكلة الإنفاق لا تقل خطورة أيضا،
ولذلك يربط الجمهوريون رفع سقف الدين بشرط خفض الإنفاق، وقد قال جون بوينر
إن الأعضاء سوف يمررون القانون المناسب الذي يمكن أن يسيطر على الإنفاق
الأمريكي وفي الوقت ذاته يمكن من استمرار الحكومة في العمل. أما أن يتم رفع
سقف الدين على النحو الذي يطالب به الرئيس الأمريكي فمعظم الجمهوريين
قالوا إنهم لن يسمحوا بذلك بدون أن يتم خفض الإنفاق بقيمة مماثلة، والواقع
أن الجمهوريين لم يبدوا أي إشارة للتنازل عن مطالبهم لخفض العجز الفيدرالي
حتى اليوم.
بين المعسكرين يحبس العالم أنفاسه مترقبا ما سوف تسفر عنه نتيجة الصراع
بينهما، ويبدو أنه كتب على هذا العالم أن يظل تحت رحمة التطورات المالية
الأمريكية لفترة طويلة من الزمن حتى تقل حدة الآثار المالية للدين الأمريكي
على النظام المالي العالمي. نحن إذن أمام معضلة حقيقية إذا لم يتم رفع سقف
الدين، فربما تتجاوز آثار ذلك تلك الآثار التي كانت متوقعة إذا ما تم
إقرار برنامج الهاوية المالية الذي ظل حديث العالم لعدة أسابيع حتى بداية
هذا الشهر، والآن ما الذي يمكن أن يحدث إذا تمسك كل طرف بموقفه وفشل
الكونجرس في التوصل إلى اتفاق بنهاية فبراير المقبل.
تجدر الإشارة إلى أنه ليس من السهل أن نحدد على وجه الدقة ما الذي سيحدث
إذا رفض الكونجرس رفع سقف الدين، ووجدت الحكومة الأمريكية نفسها غير قادرة
على إصدار مزيد من السندات كي تستمر في الإنفاق على البنود المدرجة في
الميزانية العامة، وذلك لسبب بسيط وهو أن الحكومة الأمريكية لم تواجه هذا
الموقف من قبل، ولكن بشكل عام إذا لم يتم رفع سقف الدين فسوف تواجه
الولايات المتحدة أحد الاحتمالين الآتيين:
الاحتمال الأول، وهو الاحتمال الأبعد، وهو أن تعلن الولايات المتحدة
التخلف عن سداد التزاماتها نحو دينها العام، بالطبع هذا الخيار سوف يكون
خطيرا جدا ليس فقط للولايات المتحدة وإنما للعالم أجمع، ففي اللحظة التي
ستعلن فيها الخزانة الأمريكية تخلفها عن السداد سوف تنهار البورصات في
العالم ويصاب النظام المالي العالمي بأكبر صدمة مالية في التاريخ، نحن
نتحدث عن الإعلان عن التخلف عن خدمة 16.3 تريليون دولار من الديون، حيث
ستجد المؤسسات المالية المرتبطة بهذا الذين الضخم، أن المدين قد توقف عن
خدمة استثماراتها في هذا الدين.
سوف يصاحب هذا الاحتمال بالطبع أن تتم عملية تخفيض تصنيف الدين الأمريكي
من باقي مؤسسات التصنيف الائتماني، أو ربما تتعرض أمريكا لتخفيضات متتالية
لتصنيف الدين الأمريكي، ويفقد الدين الأمريكي بالتبعية خاصية أنه آمن
الديون السيادية في العالم اليوم، ومن الطبيعي أن يصاحب ذلك ارتفاع في
تكلفة الاقتراض، حيث تقترض الولايات المتحدة حاليا بمعدلات فائدة منخفضة
جدا، ما يعني أن احتمال إفلاس الولايات المتحدة صفر في المئة تقريبا، إذ لا
بد أن ترتفع معدلات الفائدة على السندات الأمريكية كي تعوض حامليها عن
ارتفاع مستويات المخاطرة المصاحبة لتلك السندات.
الاحتمال الثاني هو توقف عمل الحكومة Government Shutdown، حيث تتوقف
بعض الوظائف التي تقوم بها الحكومة بسبب عدم القدرة على الدفع، لأن الخزانة
ليست مخولة بالاقتراض، وبحيث تصبح الحكومة مقيدة بالإنفاق حسب كمية
الإيرادات التي تحصل عليها. في هذه الحالة لا بد أن تقوم الحكومة بعملية
وضع أولويات للإنفاق بين أوجه الإنفاق المختلفة، ولكن كيف ستحدد الحكومة
هذه الأولويات؟ تلك مسألة أخرى تعتمد على وجهة نظر صانع السياسة بين هذه
الأولويات.
في الوقت الحالي تبلغ إيرادات الحكومة الأمريكية نحو 75 في المائة من
إجمالي إنفاقها العام، مما يعني أنه في حال عدم الموافقة على رفع سقف الدين
سوف تحتاج الحكومة الأمريكية إلى خفض الإنفاق العام بنحو الربع تقريبا (26
في المائة)، حتى تتماشى عمليات الإنفاق مع الإيرادات العامة للدولة دون
الاضطرار إلى الاقتراض، بالطبع سوف يترتب على عملية تخفيض الإنفاق التوقف
عن سداد كثير من المدفوعات المستحقة على الحكومة مثل وقف دفع الفائدة على
الدين المحلي، أو التوقف عن رد بعض الحصيلة الضريبية لدافعي الضريبة، أو
التوقف عن سداد مدفوعات التأمين الاجتماعي .. إلخ. هذا الخفض المفترض في
الإنفاق العام يمثل حاليا نحو 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه
النسبة أكبر بكثير من حجم الخفض في الإنفاق الذي كان متوقعا إذا لم يتم
تمرير مشروع تجاوز الهاوية المالية.
غير أن المعلومات المتاحة لنا حاليا تشير إلى أن الحكومة الأمريكية ليس
لديها خطة واضحة اليوم حول كيفية سداد التزاماتها إذا ما رفض الكونجرس رفع
سقف الدين، فالمشكلة الأساسية التي تواجهها الحكومة، هي أن عملية الاختيار
بين ما هو ذو أولوية وما يمكن تأجيله تعد مسألة صعبة، ولكن من المؤكد أن
الحكومة الأمريكية سوف تعطي مدفوعات الفائدة على الدين الأمريكي أولوية في
عملية تخصيص إيرادات الضرائب، حتى لا تتأثر معدلات العائد على السندات ولا
ترتفع تكلفة الاقتراض للولايات المتحدة، ذلك أن تخلف الولايات المتحدة عن
سداد مدفوعات الفائدة ولو لمرة واحدة يمكن أن يحدث اضطرابا شديدا في أسواق
المال، ويضر بملاءتها الائتمانية على نحو كبير، وهو ما يرفع من تكلفة
الاقتراض، ومن ثم يضر بالاقتصاد الأمريكي. من ناحية أخرى فإن قيام الحكومة
الأمريكية بهذا القدر الكبير من الخفض الإنفاقي في غضون فترة زمنية قصيرة،
سوف يحدث تراجعا واضحا في حجم الإنفاق، ومن ثم احتمال حدوث تراجع في
مستويات النشاط الاقتصادي وعودة الاقتصاد الأمريكي إلى مربع الكساد مرة
أخرى.
الخيارات الأخرى المتاحة أمام الخزانة معظمها - مع الأسف الشديد - غير
واقعية، فمن المقترحات المطروحة بقوة اليوم؛ أن تقوم الخزانة بإصدار
تريليون دولار من النقود المعدنية لتستخدمها في سداد التزاماتها، دون
اللجوء إلى الاقتراض، ولكن هذا الخيار خطير أيضا - كما أوضحت يوم السبت
الماضي في زاويتي ''مجرد تعليق'' هنا في الاقتصادية.
من المقترحات أيضا أن تقوم الحكومة الأمريكية ببيع بعض الأصول التي
تمتلكها؛ على سبيل المثال أن تقوم الحكومة الأمريكية ببيع السندات التي
تمتلكها مثل السندات المغطاة بالرهون العقارية، أو أن تبيع أسهم الشركات
التي تساهم فيها مثل جنرال موتورز، أو بدلا عن ذلك تقوم الولايات المتحدة
ببيع الاحتياطي الذهبي الذي تمتلكه، فأمريكا تمتلك 8133.5 طن من الذهب يصل
ثمنها بسعر اليوم إلى نحو نصف تريليون دولار، وهو ما يمكن أن يساعد الخزانة
على تخطي أزمة السيولة التي تواجهها في الأجل القصير. غير أن طرح مثل هذه
الكمية الضخمة من الذهب في السوق العالمي للذهب في الأجل القصير، سوف يؤدي
بالتأكيد إلى خفض أسعار الذهب إلى مستويات دنيا، ومن ثم تحقيق الولايات
المتحدة لخسارة كبيرة.
أخيرا فإن بعض المحللين يرون أنه بمقدور الحكومة أن تواصل عمليات
الاقتراض، وذلك بمقتضى التعديل رقم 14 على قانون الدين العام، الذي يعتقد
أنه يسمح لها بأن تقوم بذلك، غير أن هناك خلافا واضحا حول هذه النقطة.
الخلاصة هي أن فشل الحكومة بسداد المدفوعات اللازمة يمكن أن يحدث
اضطرابا كبيرا في الاقتصاد الأمريكي والأسواق المالية، وربما يترتب عليه
كساد آخر، لذلك يعتقد كثير من المراقبين أن رفع سقف الدين أشد خطرا من
الهاوية المالية الأمريكية التي تجاوزها الكونجرس الأمريكي في بداية هذا
الشهر.