الدين العام الأمريكي أصبح يشبه إلى حد كبير ما يسمى مخطط بونزي، حيث تقترض الحكومة من ''بول'' لكي تدفع إلى ''بيتر''، وواقع الحال هو أن الحكومة الأمريكية اليوم لا يمكنها أن تقوم بخدمة ديونها، أي سداد مدفوعات الفائدة على الدين ودفع ما يحل استحقاقه من أقساط الدين بدون أن تقترض، حيث لا تمتلك الحكومة الأمريكية الموارد المالية، التي تمكنها من خدمة ديونها بدون استمرار الاعتماد على الغير في الاقتراض، وبالتالي زيادة مستويات الدين، وهو ما يتطلب ضرورة رفع سقف الدين الأمريكي من وقت إلى آخر وبصورة مستمرة.
ما يساعد الحكومة الأمريكية حاليا على استمرار الاقتراض هو انخفاض معدلات الفائدة، التي تقترض على أساسها حاليا، وهو ما يخفض من عبء عملية خدمة الدين الأمريكي، وارتفاع مستويات المخاطر المحيطة بالديون الأخرى في باقي دول العالم، خصوصا في أوروبا. لذلك تجد الولايات المتحدة تهافتا على إصدارات سندات دينها حاليا من المستثمرين في الداخل والخارج، ولا شك أنه مع تحول اتجاه معدلات الفائدة الحالية نحو الارتفاع سوف يترتب عليه زيادة حادة في نفقات خدمة الدين الأمريكي، ومع تراجع مستويات المخاطرة المصاحبة للاستثمار في ديون الدول الأوروبية قد يحدث كارثة بالنسبة لأوضاع الدين العام الأمريكي.
يزداد إجمالي الدين العام الأمريكي بطريقتين، الأولى عندما تقوم الحكومة الأمريكية بإصدار سندات وبيعها للجمهور لتمويل العجز في الميزانية ومن ثم الحصول على الموارد اللازمة لمواجهة التزاماتها، وهو ما يؤدي إلى زيادة الدين الذي يحتفظ به الجمهور (بما فيهم الأجانب). والطريقة الثانية هي أن تقوم الحكومة الفيدرالية بإصدار سندات تباع إلى الحسابات الحكومية، مثل صناديق الرعاية الصحية وصناديق التقاعد، في مقابل استخدام فوائض تلك الصناديق لتمويل هذه السندات، وهو ما يؤدي إلى زيادة الدين الذي تحتفظ به الحكومة، أو ما يطلق على دين ما بين الحكومة، وإجمالي هذين الجزأين يسمى إجمالي الدين العام.
وفقا لنظام الاقتراض الأمريكي يضع الكونجرس دائما قيودا على قدرة الخزانة على الاقتراض بمقتضى نظام سقف الدين، الذي تم إدخاله في 1939. ومتى تم تحديد سقف الدين يمكن للخزانة الأمريكية الاقتراض في حدود هذا السقف، وعندما يصل الدين الأمريكي إلى سقفه المحدد بالقانون الذي أصدره الكونجرس، لا تستطيع الخزانة الأمريكية إصدار أي سندات إضافية، وعليها التقدم بطلب للكونجرس لرفع سقف الدين.
ولكن لماذا يفرض سقف الدين في النظام الأمريكي؟ الإجابة تكمن في أن الهدف الأساسي من نظام سقف الدين هو الحد من قدرة الخزانة على الاقتراض، فعندما يصل الدين الفيدرالي إلى حدوده القانونية لا بد أن تلجأ الخزانة إلى إجراءات أخرى غير اعتيادية لتدبير احتياجاتها التمويلية بدون أن تلجأ إلى الاقتراض تستوفي بها التزاماتها، حتى لا تضطر الولايات المتحدة إلى التوقف عن استيفاء التزاماتها، وهو ما لم يحدث حتى اليوم.
من ناحية أخرى، فإن سقف الدين يعطي الكونجرس القدرة على السيطرة على الخزانة في هذا الجانب، وأن يمارس صلاحياته الدستورية في الرقابة على الإنفاق، فبينما توفر الميزانية للكونجرس أداة للسيطرة على الإنفاق الحكومي، فإن رفع سقف الدين يوفر أيضا للكونجرس أداة إضافية للسيطرة على المالية العامة بشكل غير مباشر.
شهد العقد الأخير كثافة غير عادية في رفع سقف الدين فمنذ 2001 تم رفع سقف الدين 11 مرة، بسبب العجز المستمر الذي واجه الحكومة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. آخر مرة وصل فيها الدين الأمريكي إلى سقفه الأعلى يوم 16 مايو 2011، والذي أعقبه سلسلة طويلة ومرهقة من المفاوضات بين الحزبين ترتب عليها خفض تصنيف الدين الأمريكي لأول مرة، الأمر الذي أدى إلى تغذية الشكوك حول مدى قدرة الاقتصاد الأمريكي على سداد ديونه في مواعيدها، حتى تم التوصل إلى اتفاق قام بمقتضاه الرئيس أوباما بإصدار قانون مراقبة الميزانية في 2 أغسطس 2011 قبل ساعات من إعلان توقف الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها، وذلك بزيادة سقف الدين بمقدار 2.1 تريليون دولار تقسم على ثلاث دفعات 400 مليار في أغسطس 2011، و500 مليار في سبتمبر و1.2 تريليون في يناير 2012. لقد كانت تكلفة هذا الصراع فادحة للولايات المتحدة، فقد أشارت دراسة لمكتب المحاسبة الحكومي أن الصراع حول رفع سقف الدين في 2011 ترتب عليه خسارة نحو 1.3 تريليون دولار نتجت عن حالة عدم التأكد، التي نجم عنها تعقيد عمليات الاقتراض الفيدرالي.
أعلن يوم الإثنين 31/12/2012 عن بلوغ الولايات المتحدة الحد الأقصى للاقتراض، حيث وصل الدين العام الأمريكي إلى سقفه الأقصى، الذي تم تحديده بمقتضى اتفاق رفع سقف الدين في أغسطس 2011 الذي يساوي 16.394 تريليون دولار، وبهذا الشكل يكون قد تبقى شهران تقريبا على التوقيت الذي يجب أن يصوت فيه الكونجرس على رفع سقف الدين الأمريكي، أو أن تعلن الولايات المتحدة توقفها عن سداد التزاماتها المالية. بهذا الشكل ينتقل الكونجرس الأمريكي من قضية مالية ساخنة وهي قضية الهاوية المالية إلى أخرى أكثر سخونة، وذلك قبل اتفاق تفادي الهاوية المالية بيوم واحد.
بمجرد بلوغ الدين الأمريكي سقفه الأعلى قدم وزير الخزانة الأمريكي تيم جايثنر خطابا إلى الكونجرس يعلمه فيه بأن الخزانة قد بدأت في التوقف عن إصدار سندات جديدة للاقتراض، أو ما يطلق عليه ''فترة التوقف عن إصدار الدين''، التي تنتهي في 28 فبراير القادم، سوف تحتاج الخزانة إلى نحو 200 مليار دولار لتغطية احتياجات الإنفاق لديها في هذه الفترة، قبل أن يقوم الكونجرس برفع سقف الدين. وحتى هذا التوقيت سوف تلجأ الخزانة إلى اتخاذ إجراءات غير اعتيادية لتدبير الموارد المالية اللازمة لتمويل احتياجات الإنفاق للحكومة بدون أن تلجأ إلى الاقتراض، وتم التأكيد على أن هذه الإجراءات غير العادية سوف تستنفذ أثرها بسرعة أكبر من المرة الماضية لأسباب فنية عديدة.
من أمثلة هذه الإجراءات غير الاعتيادية ما اتخذته الخزانة في خلال الفترة من 20 فبراير إلى 27 مايو 2003 حتى قيام الكونجرس برفع سقف الدين، باستخدام أموال السندات الحكومية المستثمرة في نظام التأمينات الاجتماعية للعمال، واستخدام أموال صندوق الخدمة المدنية، ووقف عمليات بيع التزامات الخزانة للولايات والحكومات المحلية، واستدعاء المودعات بدون الفائدة المودعة في البنوك التجارية كتعويض في مقابل الخدمات، التي تؤديها البنوك التجارية للخزانة، وغيرها. بالطبع هذه الإجراءات يترتب عليها تحقيق خسائر في صورة فقدان مدفوعات الفائدة على هذه الأموال.
بمجرد الإعلان عن بلوغ الدين الأمريكي سقفه الأعلى بدأ الإعداد للمعركة المالية القادمة لرفع سقف الدين من جانب كل من الجمهوريين والديمقراطيين. من جانبهم يرى الجمهوريون في مفاوضات رفع سقف الدين فرصة لتمرير طلباتهم حول تخفيض مستويات الإنفاق وإصلاح نظام الرعاية الصحية والتأمينات الاجتماعية، التي تكلف الميزانية الأمريكية أموالا طائلة. فقد أعلن جون بوينر أنه سوف يصر على ضرورة أن يصاحب رفع سقف الدين العام تخفيضات مماثلة في الإنفاق العام، حيث أخبر النواب الجمهوريين بأنه بعد أن تم الانتهاء من الهاوية المالية، فإن توجههم القادم هو حول الإنفاق العام، وأنه لن يقابل الرئيس الأمريكي وراء الأبواب المغلقة مرة أخرى، ما يعكس استعداد الجمهوريين لخوض الحرب حول رفع سقف الدين. من جانب آخر أعلن الرئيس أوباما بأنه لن يسمح بأي جدل حول رفع سقف الدين، كما أعلن أنه لن يقوم بخفض الإنفاق في مقابل أي رفع لسقف الدين، باختصار شديد لقد دقت طبول الحرب، وبدأ كل جناح في الكونجرس بالتسلح بما يستطيع لمواجهة الطرف الآخر، وهو ما سوف نشهده بالتأكيد وتسفر عنه المناوشات بين الحزبين خلال الشهرين القادمين، والآن ماذا سيحدث إذا لم يتم رفع سقف الدين؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه في الحلقة القادمة من هذا المقال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق