التحديات التي تواجهها السياسة النقدية الأمريكية في الوقت الحالي ما زالت كبيرة ومعقدة، فالمستهدفات الأساسية للسياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، التي تتمثل في تعظيم معدلات التشغيل في الاقتصاد الأمريكي، وفي ذات الوقت السيطرة على التضخم ضمن نطاق مستهدفات محددة، لا تتحقق حاليا في الاقتصاد الأمريكي، على الرغم من عمليات التدخل المكثف التي انتهجها الاحتياطي الفيدرالي بكل أدوات السياسة النقدية التقليدية (للحفاظ على معدل الفائدة قصير الأجل منخفضا)، أو غير التقليدية مثل التيسير الكمي (للتأثير على هيكل معدلات الفائدة على الأوراق المالية ذات الاستحقاق طويل الأجل). فالوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يسير على نحو مرض بالنسبة لصانع السياسة النقدية، حيث لا يسير النمو الاقتصادي، خصوصا في 2012، على نحو مناسب، فلقد تراجعت معدلات النمو في هذا العام بصورة واضحة أعادت للأذهان سيناريوهات الكساد المزدوج طوال النصف الأول من العام، وذلك قبل أن تتحسن معدلات النمو نسبيا في النصف الثاني من هذا العام، كذلك شهد سوق العمل الأمريكي خلال 2012 تراجعا في معدلات البطالة غير أن هذا التراجع صاحبه عدم استقرار في معدل البطالة، والذي مال نحو التصاعد لفترة من الزمن خلال هذا العام أيضا.
من ناحية أخرى، فإن التطورات في معدل التضخم الأمريكي لا تسير وفقا لتوقعات لجنة السوق المفتوح، وهي بشكل عام أقل من المستويات المتوقعة في ظل سياسات التسهيل النقدي التي يتبناها الاحتياطي الفيدرالي أخذا في الاعتبار حجم عمليات التوسع النقدي التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي. فقد ظل معدل التضخم عند مستويات أقل من المعدل المستهدف (2% على المدى الطويل)، وفي بعض الحالات كان معدل التضخم سالبا، ما زاد مخاوف سقوط الاقتصاد الأمريكي في مصيدة الانكماش السعري، وعلى الرغم من كل عمليات التوسع النقدي الذي تقوم بها الولايات المتحدة، فإن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح ما زالت تتوقع حاليا أن يستمر معدل التضخم في الأجل المتوسط أقل من المستوى المستهدف.
مما يعقد من مهمة الاحتياطي الفيدرالي أن المخاطر المالية، التي تنتشر في الأسواق المالية في العالم، بصفة خاصة في أوروبا، تؤدي إلى تزايد الضغوط السلبية على اتجاهات النمو في الاقتصاد الأمريكي، وقد بدا ذلك واضحا في بداية 2012، باختصار شديد النمو الاقتصادي الأمريكي حاليا ليس قويا إلى الحد الذي يمكن معه فتح كميات كافية من الوظائف في سوق العمل بما يساعد على مواجهة المستويات المرتفعة لمعدلات البطالة، وتتمثل أهم التحديات، التي تواجه السياسة النقدية حاليا في تباطؤ معدلات نمو الإنفاق الاستثماري الثابت لقطاع الأعمال، التي تلعب دورا مهما في فتح الوظائف الجديدة في سوق العمل.
لقد نجحت الإدارة الأمريكية من خلال الاستخدام الكثيف للسياسة المالية والنقدية الأمريكية في إخراج الاقتصاد الأمريكي سريعا من حالة الكساد (أي تحقيق معدلات نمو سالب) بنهاية 2009، لتبدأ بعد ذلك مهمة استعادة النشاط الاقتصادي لمستوياتها قبل الأزمة، بصفة خاصة في سوق العمل الأمريكي، التي ثبت بعد ذلك أنها مهمة شاقة جدا اقتضت اللعب بأدوات السياسة النقدية الأمريكية حتى حدودها القصوى، فطوال السنوات الماضية استنفد الاحتياطي الفيدرالي كل السبل تقريبا لمحاولة رفع مستويات النشاط الاقتصادي إلى مستويات ما قبل الأزمة، غير أنه من الواضح أن هذه المهمة حتى الآن يبدو أنها صعبة للغاية على الأقل في الأجل المتوسط، ومع ذلك ما زال الاحتياطي الفيدرالي عند رؤيته الأولية بأنه بدون التطبيق المكثف لسياسات النقود السهلة، فإن النمو الاقتصادي الأمريكي لن يكون قويا في المستقبل بالصورة التي تساعد على ضمان استدامة التحسن في سوق العمل، خصوصا في ظل استمرار التأثيرات السلبية التي تترتب على ارتفاع المخاطر في الأسواق المالية الدولية على اتجاهات النشاط الاقتصادي الأمريكي.
حتى الاجتماع الأخير للجنة الفيدرالية للسوق المفتوح FOMC، كانت ملامح السياسة النقدية الأمريكية تتمثل في تبني مستوى مستهدف لمعدل الفائدة قصيرة الأجل يقترب من الصفر، وهو أن يتراوح معدل الفائدة بين المصارف Federal funds rate بين الصفر إلى ربع في المائة. بالإضافة إلى الحفاظ على معدل الفائدة قصيرة الأجل عند هذه المستويات المتدنية، تبنى الاحتياطي الفيدرالي ثلاث خطط للتيسير الكمي هدفت إلى تعديل هيكل معدلات الفائدة على الأوراق المالية برفع معدلات الفائدة على السندات طويلة الأجل.
كما تبنى الاحتياطي الفيدرالي برامج لشراء السندات الأمريكية كان بمقتضاها يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات طويلة الأجل، سواء أكانت سندات خزانة أو سندات مؤسسات لمؤسسات مالية مغطاة بالرهون العقارية، أي السندات التي تصدرها مؤسستا ''فاني ماي وفريدي ماك''، هذه السندات يتم إضافتها إلى رصيد الأصول في ميزانية الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، في مقابل تعلية حسابات المصارف والمؤسسات التي تم شراء هذه السندات منها لدى الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما يعني زيادة عرض النقود مع كل عملية شراء للسندات، وهو ما أطلق عليه عمليات التيسير الكمي، وقد ترتب على عمليات التيسير الكمي ارتفاع ميزانية الاحتياطي الفيدرالي إلى 2.861 تريليون دولار في الأسبوع الماضي، وذلك مقارنة بنحو 0.9 تريليون دولار عشية انطلاق الأزمة.
كذلك تبنى الاحتياطي الفيدرالي برنامجا للي منحنى العائد على السندات Operation Twist، بمقتضاه كان الاحتياطي الفيدرالي يقوم ببيع السندات قصيرة الأجل، ثم يشتري بالقيمة سندات خزانة طويلة الأجل بهدف الضغط على معدلات الفائدة طويلة الأجل لخفضها، وهي العملية التي تختلف عن عمليات التيسير الكمي في أنه لا يترتب عليها زيادة في عرض النقود، حيث لا تؤثر في حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، لأنها ببساطة عملية استبدال أوراق مالية ذات آجال استحقاق معينة بأوراق مالية أخرى ذات آجال استحقاق مختلفة، وطالما أن العملية لا يترتب عليها تغيير حجم الميزانية، فإن عرض النقود الأمريكي يظل ثابتا، والجدير بالذكر أن هذه العملية ستنتهي في نهاية كانون الأول (ديسمبر) 2012.
بالإضافة إلى ذلك كان الاحتياطي الفيدرالي يقوم بشراء السندات من خلال إعادة استثمار Reinvestment ما يستحق من سندات بشراء سندات جديدة، غير أنه لوحظ في الفترة الأخيرة أن حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي قد أخذ في التراجع، حيث كانت عمليات شراء السندات الجديدة أقل من حصيلة السندات التي حل موعد استحقاقها، فتراجعت أصول والتزامات الاحتياطي الفيدرالي، أي انخفضت ميزانية الاحتياطي الفيدرالي وتراجع معها عرض النقود بشكل محدود.
عبر اجتماعات لجنة السوق المفتوح المتتالية في السنوات الأخيرة، تم التأكيد على أن سياسة النقود السهلة سوف تستمر حتى تتعزز معدلات نمو النشاط الاقتصادي وتتحسن أوضاع سوق العمل الأمريكي بانخفاض معدلات البطالة. على سبيل المثال أكدت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح مرارا بأنها ستستمر في تبني معدل الفائدة قصير الأجل Federal funds rate عند مستوى صفري، وأنها ستستمر في برنامج شراء الأوراق المالية حتى تتحسن أوضاع سوق العمل في ظل الاستقرار السعري، وفي كل مرة لم تقم لجنة السوق المفتوح بتحديد نهاية محددة لبرنامج شراء الأصول، واقتصرت بالإفادة على أنه سينتهي بتحسن الأوضاع الاقتصادية وتراجع معدلات البطالة، بمعنى آخر كانت سياسة الاحتياطي الفيدرالي تقوم على أساس أنه سيتوقف عن تبني مستهدفات معدل الفائدة المنخفضة، وسيسمح لمعدل الفائدة بالارتفاع عندما تتحسن الأوضاع الاقتصادية بشكل عام ويتحسن أداء سوق العمل بتراجع معدلات البطالة، دون أن يحدد طبيعة هذا التحسن وكيف يمكن الحكم عليه.
حمل الاجتماع الأخير للجنة الفيدرالية للسوق المفتوح مفاجأة للمتابعين لتطورات السياسة النقدية الأمريكية، حيث حدث تحول هيكلي في كيفية إدارة السياسة النقدية الأمريكية، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال - بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق