كشفت الحكومة السعودية منذ أيام عن مشروع الميزانية للسنة المالية 1434/1435، التي تعد بكافة المعايير أضخم ميزانية عامة على الإطلاق في تاريخ المملكة، حيث تقدر النفقات في هذه السنة المالية بأكثر من تريليون ريال، مقارنة بحجم الإنفاق في السنة المالية الحالية، الذي يتوقع أن يصل إلى 853 مليار ريال، بزيادة نحو 163 مليار ريال عن التقديرات المتوقعة في ميزانية العام الحالي، كذلك تم إنفاق 46 مليار ريال على مشاريع البرنامج الإضافي. مما يعني أن إجمالي الإنفاق العام في السنة المالية 1433/1434 بلغ نحو 899 مليار ريال، مقارنة بإنفاق عام قدره 815 مليار ريال في العام الذي سبقه 1432/1433. في المقابل قدر الإنفاق العام في السنة المالية القادمة 1434/1435 بنحو 820 مليار ريال، في الوقت الذي صرح فيه وزير المالية، بأنه سوف يتم إنفاق 200 مليار ريال إضافية على مشروعات النقل داخل المدن، التي سيتم تمويلها من فائض ميزانية عام 1433/1434، وهو ما يرفع من إجمالي الإنفاق المتوقع إلى 1020 مليار ريال، وهو بمقاييس الاقتصاد السعودي يعد قدرا هائلا من الإنفاق.
كافة المقالات التي تناولت مشروع الميزانية عن هذا العام أثنت على ضخامة حجم الإنفاق فيها، وأن الميزانية الحالية تصب في تحسين مستويات الخدمات، وأنها كفيلة بمواجهة أية ضغوط انكماشية يمكن أن تتعرض لها المملكة. ليس لديّ شك في أهمية الدور الذي يلعبه الإنفاق الحكومي في المملكة، ولكن في رأيي الميزانية الأخيرة، على عكس ما يعتقد الكثيرون، فمن الواضح أعلاه أن الإنفاق الحكومي السعودي ينمو بمعدلات تثر علامات استفهام حقيقية حول إمكانية استدامة هذه المستويات الضخمة من الإنفاق العام في المستقبل. ففي عام 1420/1421 بلغ حجم الإنفاق العام نحو 217 مليار ريال فقط، وهو ما يعني أن الإنفاق العام في المملكة تزايد خلال الـ 13 عاما الماضية بنحو خمسة أضعاف، وهو تطور يعكس ارتفاع معدلات نمو الإنفاق العام على نحو واضح. على الجانب الآخر يتوقع أن تصل الإيرادات العاملة للسنة المالية الحالية إلى نحو 1240 مليار دولار، وهي أيضا مستويات فلكية للإيرادات العامة في المملكة. غير أن الجانب الأكبر من هذه الإيرادات ناتج أساسا من هيمنة القطاع النفطي في الاقتصاد السعودي.
إن تحليل هيكل الميزانية العامة في المملكة يكشف عن جوانب الاتجاهات الحالية للإنفاق الحالي للمملكة، التي تتمثل في الآتي:
1 - إن الإنفاق العام في المملكة أصبح ينمو بمعدلات تفوق معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، فخلال الفترة من 1420/1421 حتى 1433/1434، بلغ معدل النمو المتوسط للإنفاق الحكومي 13.5 في المائة سنويا، وهو بكافة المعايير يعتبر معدلا مرتفعا للغاية، حيث يزيد على معدل النمو المتوسط للناتج والذي بلغ في المتوسط 10.4 في المائة في الفترة ذاتها.
2 - من ناحية أخرى فإن الإنفاق كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تميل إلى التزايد، على الرغم من نمو الناتج المحلي الإجمالي بصورة كبيرة خلال السنوات الأخيرة. ففي السنة المالية 1433/1434 بلغت نسبة الإنفاق العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 43.4 في المائة، وهي نسبة مرتفعة جدا بالمعايير الدولية، وتعكس الدور الكبير الذي تلعبه الحكومة في الاقتصاد المحلي.
3 - إن استمرار النمو في الإنفاق عند هذه المعدلات المرتفعة يعني أن المملكة تضيف سنة بعد أخرى، وبمرور الوقت، إلى التزاماتها الجارية أعباء دائمة في صورة رفع الإنفاق على الدعم والمرتبات وغيرها من جوانب الإنفاق الجاري، يصعب التخلص منها في المستقبل، أو سوف يكون التخلص منها مكلفا للغاية من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حيث إن الإنفاق العام الذي يميل نحو التزايد بصورة مستمرة يتركز أساسا في الإنفاق الجاري، الذي يصعب السيطرة عليه أو تخفيضه في أوقات تراجع الإيرادات العامة.
4 - إن المالية العامة للدولة تتسم بالتركيز الشديد على الإيرادات في مصدر شبه وحيد تقريبا، وهو الإيرادات النفطية، في الوقت الذي تتضاءل فيه مساهمة الإيرادات غير النفطية على نحو واضح، كما تنعدم تقريبا المبادرات الرامية إلى تعديل هيكل الإيرادات العامة، بحيث لا تقتصر فقط على مصدر واحد للإيرادات، الذي يعرض المالية العامة للدولة لعدم الاستقرار الناجم عن التقلب المستمر فيه، حيث إن معطيات السوق العالمي للنفط الخام لا تتسم بالاستقرار، وبالتالي تظل المالية العامة للمملكة مكشوفة على تطورات الطلب العالمي على النفط الخام والعرض العالمي منه، وبالتالي الأسعار.
5 - إن هذا النمو في الإنفاق العام يترتب عليه تزايد الحد الأدنى لسعر النفط الذي يضمن توازن الميزانية، فمنذ سنوات قليلة كان الحد الأدنى لسعر النفط الخام الذي يضمن الحصول على إيرادات نفطية كافية لسداد احتياجات الإنفاق العام في المملكة محدودا، أما اليوم، وفي ظل هذا القدر الهائل من الإنفاق يصبح الحد الأدنى لسعر النفط الخام اللازم لضمان توازن الموازنة كبيرا إلى الحد الذي لا يمكن ضمان تحققه في سوق النفط الخام الذي يتسم بالتقلب الشديد كما هو معلوم.
6 - إن هذا الهيكل للميزانية العامة للدولة يضع صانع السياسة المالية في المملكة في مأزق كبير، ربما لا تبرز ملامحه طالما أن أسعار النفط كانت مرتفعة، والمالية العامة في وضع مريح، غير أنه عندما تميل أسعار النفط نحو التراجع، فإن هشاشة وضع الميزانية العامة للمملكة تتضح بصورة أكبر، وهنا يبدأ الضغط الحقيقي على المالية العامة للدولة.
7 - إن الحكومة السعودية لا بد أن تبحث بجدية عن مصادر بديلة للإيرادات النفطية؛ بحيث تحدث قدرا أكبر من التنويع في هيكل الإيرادات من خلال اتساع قاعدة مصادر الإيرادات العامة للدولة، بما يساعد على تحقيق قدر أكبر من الاستقرار في تدفق الإيرادات العامة للدولة.
8 - إن الحكومة ينبغي أن تقوم بمراجعة شاملة للنفقات المخصصة للدعم بكافة أشكاله، الذي يستهلك جانبا لا بأس به من الإنفاق العام حاليا، حيث لا يحقق الهيكل الأساسي للدعم الحالي ولا طريقة توزيعه الأهداف الأساسية التي تسعى الدولة إلى تحقيقها من الدعم، كسياسة لرفع مستويات الرفاه للفرد، إذ يقدم الدعم حاليا في معظم أشكاله لجميع المستهلكين بغض النظر عن مستويات دخولهم أو درجة استحقاقهم للدعم المقدم من قبل الدولة، وهو ما يخل بمبدأ توزيع الإنفاق على الدعم بين مختلف الفئات الدخلية في المجتمع.
9 - إن الحكومة السعودية ينبغي أن تنظر بجدية أكبر في الأسلوب الحالي لتسعير السلع والخدمات العامة، التي يتم تقديم الكثير منها بتكاليف تقل بصورة كبيرة عن تكلفتها الحقيقية، بصفة خاصة الكهرباء والماء والوقود والسلع الغذائية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى إفراط كبير في استهلاكها، ومن ثم هدر جانب مهم من الإنفاق العام للدولة، وبحيث تعكس التسعيرة الجديدة للسلع والخدمات العامة التكلفة الحقيقية لإنتاجها أو الجانب الأكبر منها.
10 - ربما يكون من الأنسب أن تستبدل الحكومة الدعم غير المباشر الذي تقدمه حاليا للسلع والخدمات المختلفة بأشكال أخرى للدعم أكثر عدالة وكفاءة في ترشيد استخدام السلع والخدمات المدعمة، على سبيل المثال يمكن استبدال الدعم غير المباشر بكوبونات تستخدم أساسا بواسطة المستحقين، أو من خلال المساعدات النقدية المباشرة للمستحقين من ذوي الدخل المحدود بحيث يذهب الدعم إلى مستحقيه الحقيقيين.
هذه النقاط تعكس الجانب الآخر من صورة الميزانية السعودية التي يندر أن يتناولها الكتاب عند الحديث عن مشروع الميزانية العامة للدولة كل عام، وليس لديّ شك في أن الاهتمام بهذه النقاط يمكن أن يحسن بشكل جوهري من الأوضاع العامة للمالية العامة في المملكة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق