استعرضنا في الأسبوع الماضي تطورات السياسة النقدية الأمريكية منذ أن بدأت الأزمة، والإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في إطار سياسة التسهيل النقدي التي اتبعتها حتى اليوم، كما سبق أن ذكرنا أن الاجتماع الأخير للجنة الفيدرالية للسوق المفتوح، انطوى على تغير واضح في اتجاه السياسة النقدية الأمريكية، فمن وقت إلى آخر كانت اللجنة تقوم بمراجعة توقعاتها حول اتجاهات النمو والبطالة والتضخم في المديين القصير والطويل، ثم تحدد اتجاهات السياسة النقدية حتى تاريخ محدد في المستقبل يتم تعديله من وقت إلى آخر.
تمثلت أهم التطورات الأخيرة في السياسة النقدية الأمريكية في أنها لم تعد مرتبطة بتوقيت محدد، وإنما بتحقق مستهدفات محددة في الاقتصاد الأمريكي، أي أن الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في اتباع مدخل التركيز على النتائج، وذلك باستمرار تبني معدلات الفائدة الصفرية، حتى تتحسن الأوضاع الاقتصادية بمستوى أسعار مستقر. الجديد هذه المرة في السياسة النقدية الأمريكية هو أنها قامت بتحديد بدقة ماذا تعني عملية تحسن الأوضاع الاقتصادية. فقد أعلنت لجنة السوق المفتوح أنها ستستمر في دعم هدفيها في تعظيم مستويات التشغيل والاستقرار السعري خلال 2013، كما أنها تتوقع استمرار سياساتها النقدية التوسعية لفترة زمنية طويلة بعد انتهاء برنامج شراء الأصول الذي تمارسه حاليا وكذلك بعد تعزز عملية تحسن مستويات النشاط الاقتصادي، وقد وضعت اللجنة شروط هذا التحسن في الآتي:
- أعلنت اللجنة أنها ستستمر في مراقبة التطورات في سوق العمل الأمريكي في الأشهر المقبلة، فإذا لم يحدث تحسن جوهري، فإن اللجنة ستستمر في عمليات شرائها لسندات الخزانة والسندات المغطاة برهون عقارية، وكذلك أدواتها الأخرى حتى يتحسن وضع سوق العمل في ظل استقرار الأسعار، وقد تم تعريف تحسن سوق العمل بأنه الحالة التي تنخفض فيها البطالة إلى معدل 6.5 في المائة. معنى ذلك أنه إذا لم يتحسن أداء سوق العمل في 2013 بحيث تنخفض معدلات البطالة نحو هذا المستوى أو أقل، فمن المتوقع أن نشهد تحولا في اتجاه السياسة النقدية الأمريكية لتصبح أكثر هجومية، وأن نشهد مزيدا من التسهيل النقدي.
- أخذا في الاعتبار أن الضغوط التضخمية التي صاحبت كل هذه الإجراءات للتسهيل النقدي لم تؤد إلى الضغط على الأسعار نحو الارتفاع أو أن يخرج معدل التضخم الأمريكي عن نطاق السيطرة حتى اليوم، أو حتى عن المستويات التي يستهدفها الاحتياطي الفيدرالي بشكل دائم، فإن الاحتياطي الفيدرالي سيستمر في اتباع سياسة معدلات الفائدة الصفرية حتى يرتفع التضخم عن 2.5 في المائة، وهو مستوى أعلى من المستوى المستهدف للنمو من الاحتياطي الفيدرالي الذي يساوي 2 في المائة بنصف في المائة.
من الواضح أنه لأول مرة منذ بداية الأزمة سيتبنى الاحتياطي الفيدرالي مؤشرات كمية حول مستهدفات السياسة النقدية في الفترة القادمة، وعندما تصل تلك المستهدفات إلى حد معين، سيوقف الاحتياطي الفيدرالي مستهدفاته حول معدلات الفائدة وسيسمح بالتالي بزيادة معدلات الفائدة سواء بين المصارف أو معدلات الفائدة طويلة الأجل بالزيادة عن المستويات شبه الصفرية حاليا، وبهذا الشكل فإن السياسة النقدية للاحتياطي الفيدرالي أصبحت أكثر شفافية في نقل المعلومات الخاصة بالسياسة النقدية للجمهور، بما فيهم قطاع الأعمال الخاص، الذي سيكون أكثر وعيا بتطورات السياسة النقدية، ومن ثم يكون أكثر استعدادا لتقبل ما سوف تترتب عنه من نتائج، وهو ما يحسن من طريقة اتصال الاحتياطي الفيدرالي مع الجمهور من خلال تحديد مستويات البطالة والتضخم، التي عندها سيبدأ بالسماح بزيادة معدلات الفائدة قصيرة الأجل.
أما بالنسبة للملامح العامة للسياسة النقدية في 2013 فإنها سوف تتمثل في الآتي:
- إن السياسة النقدية سوف تتخذ مدخلا متوازنا عندما تتحقق تلك المستهدفات المعلنة حاليا حول النمو والبطالة والتضخم بما يتوافق مع تلك الأهداف.
- ستظل التوقعات طويلة الأجل حول التضخم المستهدف عند مستوى 2 في المائة سنويا في المتوسط.
- سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في سياسته النقدية التوسعية بدون تحديد سقف محدد لهذه السياسة، حيث ستستمر عمليات شراء السندات طويلة الأجل، وكذلك السندات المغطاة برهونات عقارية لتعديل هيكل معدلات الفائدة بهدف تخفيض معدلات الفائدة طويلة الأجل، وهو ما يحفز الطلب الاستهلاكي والاستثماري والطلب على المساكن.
- سيختار الاحتياطي الفيدرالي معدلا للبطالة هذه المرة أعلى من المعدل الطبيعي للبطالة Natural Unemployment Rate، ومع ذلك فإن هناك من بين المراقبين من يتوقع أن استعادة سوق العمل معدل بطالة 6.5 في المائة سيأخذ وقتا طويلا للغاية، ومن ثم من المتوقع أن تظل سياسات التسهيل النقدي غير المحددة النهاية مستمرة حتى هذا التوقيت.
- سيتبنى الاحتياطي الفيدرالي موجة جديدة من التيسير الكمي 4، التي ستنشأ من عمليات شراء 45 مليارا من السندات طويلة الأجل شهريا كما كان يفعل في ظل عملية لي منحنى العائد على السندات Operation Twist، ولكن دون تعقيم لأثر هذه العمليات على عرض النقود من خلال بيع سندات قصيرة الأجل هذه المرة. فبمقتضى السياسة الجديدة سيشتري الاحتياطي الفيدرالي 45 مليار دولار سندات خزانة طويلة الأجل دون أن يصاحب ذلك أي عمليات للبيع، وهو ما يعني أن هذه العملية سيترتب عليها زيادة صافية في العرض النقدي بالقيمة نفسها، وبالتالي زيادة حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، من خلال تركيز عمليات الشراء على السندات طويلة الأجل لاستمرار الضغط على منحنى العائد من طرفه طويل الأجل.
- سيترتب على هذه الموجة الجديدة من التيسير الكمي نمو حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، وهناك بعض التوقعات المبالغ فيها أنه بمعدل الشراء الشهري لـ 85 مليار دولار من السندات، فمن المتوقع أن تصل ميزانية الاحتياطي الفيدرالي إلى نحو أربعة تريليونات دولار بنهاية 2013، وهي بكل المقاييس كمية ضخمة جدا من عرض الدولار.
- سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في توسيع نطاق تواريخ استحقاق الأوراق المالية التي يحتفظ بها نحو آجال زمنية أطول برفع متوسط آجال استحقاق هذه الأدوات، حيث من المتوقع أن يكون متوسط تاريخ الاستحقاق للسندات طويلة الأجل تسع سنوات. يفترض أن يترتب على هذه الإجراءات استمرار الضغوط على معدلات الفائدة طويلة الأجل، ويدعم سوق الرهن العقاري ومن ثم تحسين سوق المساكن.
- سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في اتباع السياسة المعلنة حاليا بإعادة استثمار ما سيتم استحقاقه من سندات، تستحق على مؤسسات الإقراض وكذلك السندات المغطاة برهون عقارية، في سندات طويل الأجل.
هذه هي أهم الملامح المتوقعة للسياسة النقدية في الولايات المتحدة في عام 2013، غير أنه تنبغي الإشارة إلى أنه وفقا لتقديرات اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح حول اتجاهات النمو في الاقتصاد الأمريكي، فإنه ليس من المتوقع أن تصل الولايات المتحدة إلى هذه المستهدفات الكمية قبل عام 2015. معنى ذلك أننا نتحدث عن سياسة نقدية تمارس التسهيل النقدي على نطاق واسع حتى 2015 عندما تقترب المؤشرات المحققة في الاقتصاد الأمريكي من المستهدفات الجديدة المعلنة للسياسة النقدية الأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق