الفقراء فقراء لأنهم فقراء، هذه باختصار أهم خلاصات النظريات التي تحاول أن تفسر لنا أسباب انتشار الفقر في أجزاء مختلفة من العالم، حيث يجد الفقراء أنفسهم يدورون في حلقة خبيثة لا يستطيعون الفكاك منها، لا هم ولا أبناؤهم أو أسرهم في الغالب، خصوصا إذا كانت المؤسسات القائمة في الدولة لا تحارب الفقر، أو ليست لديها الإمكانية المادية اللازمة لمحاربته، أو تلك التي توجه جهود محاربة الفقر في الاتجاه الخطأ.
الفقراء يتواجدون في معظم أنحاء العالم الغني منها والفقير، ولكنهم يتركزون أساسا في آسيا وإفريقيا، خصوصا تلك الدول التي ترتفع فيها مستويات الكثافة السكانية مثل الهند. الفقراء في مثل هذه الدول يجدون أنفسهم يدورون في مصيدة تسمى مصيدة الفقر. فالفقير في هذه الدول فقير لأن دخله المحدود لا يمكنه من أن يتناول الكميات الكافية من الطعام، ولا يحصل بالتالي على الحصة الكافية للجسم من السعرات الحرارية، ونتيجة لذلك يشعر دائما بالضعف والهزال، ويكون أكثر عرضة للمرض، بالطبع في ظل هذه الظروف لا يجد الفقير نفسه قادرا على العمل، أو لا يستطيع سوى أداء المهام البسيطة التي تتطلب جهدا بدنيا محدودا، فتكون النتيجة أنه يحصل على دخل منخفض لا يمكنه من الحصول على احتياجاته المناسبة من السعرات الحرارية، وهكذا يجد الفقير نفسه يدور في هذه الحلقة التي لا نهاية لها.
غالبا ما ينظر إلى الطفل في الأسرة الفقيرة على أنه أحد الأصول التي تمتلكها الأسرة وأحد المصادر الكامنة للحصول على دخل إضافي، فضلا عن كونه وثيقة تأمين للآباء عندما يعينون الآباء على مواجهة متطلبات الحياة عند الكبر، ولذلك تحرص الأسرة الفقيرة على انخراط أبنائها في سوق العمل في سن مبكرة جدا حتى قبل أن تتم تهيئتهم بصورة سليمة للتوافق مع احتياجات العمل، وذلك نظرا لحاجة الأسرة لجهود أبنائه العمل في الحقول أو في المصانع أو في المتاجر، أو في أداء الحرف البسيطة كمسح الأحذية أو جمع القمامة أو غير ذلك من الوظائف التي لا تتطلب أية مهارات تقريبا.
وغالب أما تنتشر الأمية في المجتمعات الفقيرة، وبسبب الأمية ينتشر الفقر، فالأمي شخص غير كفء تنخفض مستويات إنتاجيته ويقل الطلب عليه غالبا في أسواق العمل، وكلما انتشر الفقر المدقع في مجتمع ما كلما تراجعت مستويات التعليم فيرتفع مستوى الفقر بالتبعية. أكثر من ذلك فإن الفقر لا يمكن أبناء الأسر الفقيرة من أن يتعرفوا على قدراتهم الحقيقية ولا أن يستغلوها في الاتجاه الصحيح، فالطفل الذي ينشأ في أسرة فقيرة لا يتوقع له أن يدخل المدرسة، وحتى إذا دخل المدرسة لا يتوقع له أن يبقى فيها لفترة طويلة؛ حيث غالبا ما يقضي فيها عدة سنوات ليخرج بعدها لا يعرف كيف يقرأ الجمل الأساسية، على الرغم من أنه ربما يكون ذكيا بل ولديه قدرات عقلية خارقة.
الأسرة الفقيرة بالطبع لن تتمكن من إرسال أبنائها إلى المدارس، أو تحمل تكلفة تعليهم بمستوى مناسب يؤهلهم لأن يخرجوا إلى سوق العمل مسلحين بالمهارات المناسبة للانخراط في سوق العمل بسهولة، والطفل الذي ينتمي إلى الأسرة الفقيرة يخرج من هذه الأسرة الفقيرة فقيرا لأن الفقر الذي تعيش فيه الأسرة لم يمكنها من أن تعده الإعداد المناسب لكي يحصل على عمل مناسب في سوق العمل.
مثل هذا الطفل يمكن أن يمتلك مهارات استثنائية إذا ما أحسن تنميتها وإذا ما أتيحت له الفرصة الكاملة في التعليم والابتكار والبحث العلمي قد يصبح مفيدا للعالم بأسره، على سبيل المثال عندما يخترع للعالم علاجا لمرض الزهايمر مثلا أو أن يطور نظرية جديدة تعارض نظرية النسبية لألبرت آينشتاين. فآينشتاين لم يكن العقلية الاستثنائية الوحيدة التي مرت على هذا العالم، فهناك المئات في العالم مثل آينشتاين، الكثير منهم ربما يكون يعمل اليوم في الحقول في إفريقيا أو آسيا، لهم قدرات آينشتاين، وربما أكثر، ولكنهم للأسف الشديد لم يستكملوا فرصهم في التعليم أو ربما لم يحصلوا على حقهم فيه أصلا، وهم بهذا الشكل لا يمثلون خسارة لمجتمعاتهم التي لم تتمكن من الاستفادة من الطاقات الكامنة فيهم فقط، وإنما يشكلون خسارة للبشرية جمعاء.
أكثر من ذلك فإنه بسبب جهل هؤلاء يمكن أن يتحولوا إلى مصدر خطر على هذا المجتمع، على سبيل المثال قد يتحول هذا الطفل إلى مصدر كامن للعدوى بمرض السل القاتل، عندما يتطور هذا المرض داخل رئتيه نظرا لعدم معرفته بالمرض أو بسبل الوقاية والعلاج منه، أو بالتوقيت المناسب للتدخل الطبي لمنع انتشار المرض، أو كيفية انتقال المرض إلى الآخرين عندما يختلط بهم. أو ربما تضطره ظروفه الصعبة إلى أن يستخدم ذكاءه ضد المجتمع الذي حرمه من أن يحصل على احتياجاته الأساسية، فيتحول إلى لص أو محتال، وهكذا يحول الفقر الطاقات الكامنة للمجتمع إلى مصدر للخطر عليه.
يعرف البنك الدولي اليوم الشخص الذي يعيش تحت خط الفقر بأنه الشخص الذي لا يتمكن من كسب دولارين في اليوم، ولا شك أن هذا مستوى متدن للغاية للدخل، غير أن واقع الحال يشير إلى أنه في كثير من مناطق العالم حتى هذا المستوى المنخفض من الدخل، قد لا يتمكن الكثيرون من تأمينه. ففي الهند على سبيل المثال، مثلما يشيرBanerjee and Duflo في كتابهما الذي نشر أخيرا بعنوان اقتصاديات الفقر، يعتبر الشخص تحت خط الفقر إذا ما كان يتسلم 16 روبية يوميا، أي نحو ثلث دولار أو ريال سعودي تقريبا يقضي بها يومه. بالطبع هذا المستوى من الدخل لا يمكن صاحبه من الحصول على حد الكفاف من السلع والخدمات، أي الحد الأدنى اللازم للبقاء على قيد الحياة.
كذلك فإن هذه المستويات المتدنية من الدخل لا تمكن أصحابها من الوصول إلى قائمة طويلة جدا من السلع والخدمات التي أصبحنا ننظر إليها اليوم على أنها إحدى الضرورات الأساسية للحياة، حيث تصبح هذه السلع والخدمات خارج نطاق القدرات الدخلية للفقراء، على سبيل المثال لن يتمكن أمثال هؤلاء من أن يكون لهم وصول إلى خدمات الإنترنت أو خدمات الهاتف النقال، أو شراء الصحف أو اقتناء بعض أجهزة الترفيه الأساسية في العالم اليوم، ومن الطبيعي أن نجد أن أمثال هؤلاء قد تغيب عنهم حقائق بدهية يعلمها الجميع نظرا لعدم وصولهم إلى مثل هذه الخدمات الأساسية، على سبيل المثال قد لا يعلم هؤلاء كيفية حماية الأطفال الرضع في الأسرة من الأمراض الفتاكة مثل شلل الأطفال من خلال التطعيم المناسب في التوقيت المناسب.
هذه المستويات المتدنية للدخل لا تنحصر فقط في الهند، فهناك تقريبا نحو مليار شخص في العالم دخلهم اليومي لا يتجاوز ثلث دولارا، أي ما يعادل سدس المستوى الذي حدده البنك الدولي لخط الفقر وهو دولاران في اليوم، يعيش هؤلاء من غير المحظوظين في 50 دولة في العالم معظمهم في إفريقيا وآسيا في مستويات معيشة متدنية. إنها بالفعل مأساة حقيقية يعيشها قطاع عريض من السكان في العالم.
معالجة الفقر تعد إذن خطوة أساسية في سبيل النهوض والتقدم، ومكافحة الفقر يجب أن تحتل أولوية أساسية أمام أي حكومة في العالم لما للفقر من آثار مدمرة وتهديد للنمو الاقتصادي على المدى الطويل، بل لقد أصبح ينظر اليوم إلى أن معالجة الفقر يجب أن تكون مسؤولية العالم أجمع، غنيه وفقيره، للحيلولة دون سقوط الفقراء في مصيدة الفقر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق