الأحد، مارس ٠٩، ٢٠١٤

هل يمكن استبدال العملات الوطنية بالبت كوين؟

في حلقة الأسبوع الماضي من هذا المقال ناقشنا إمكانية أن تتوافر للعالم كميات كافية من البت كوين تكفي لتمويل احتياجاته المختلفة من النقد لتسوية المعاملات عبر الحدود والطلب على الاحتياطيات، وتوصلنا إلى نتيجة مفادها أنه على الرغم من محدودية الكميات التي يمكن تداولها منها، فإن طريقة تقسيم وحدة البت كوين وسعرها السوقي تسمح بالفعل للكمية المحدودة من البت كوين أن تبلغ عنان السماء من حيث القيمة، إلى الحد الذي يفوق احتياجات العالم اليومية من النقد، ولكن هل يمكن بالفعل استبدال العملات الوطنية لدول العالم بالبت كوين؟ هذا هو السؤال الذي أتناول الإجابة عنه بالتحليل اليوم.

واقع الأمر أن استبدال العملات الوطنية في دول العالم بالبت كوين ستترتب عليه عدة آثار خطيرة يمكن تلخيصها في الآتي:

- إن استخدام البت كوين بدلا من العملات الوطنية سيحرم الحكومات من إيرادات إصدار عملاتها الوطنية، أو ما يطلق عليه Seignorage، فمن المعلوم أن هناك علاقة ثابتة بين نمو الناتج المحلي الإجمالي والنمو في إصدار النقود، حيث إن الطلب على النقود يزداد سنويا بسبب النمو في حجم المعاملات الناتجة عن النمو، وهو ما يقتضي ضرورة طبع نقود إضافية كل عام لتدبير السيولة اللازمة لتمويل هذه المعاملات، والتي تمثل دخلا للدولة، ومن ثم فإن استبدال العملات الوطنية بالبت كوين سيؤدي إلى حرمان دول العالم من هذا المصدر التقليدي للإيرادات.

إن استبدال العملات الوطنية بالبت كوين سيلغي الدور الذي يقوم به البنك المركزي كأحد المؤسسات الاقتصادية الحيوية في الدولة، وكذلك الدور الذي تقوم به السياسات النقدية في دول العالم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي، حيث ستصبح أدوات السياسة النقدية التقليدية غير ذات فاعلية، لأن البنك المركزي لن يتمكن من استخدامها أساسا، حيث يصبح من الصعب على البنك المركزي فرض حدود دنيا على نسب الاحتياطي القانوني الذي يجب أن تحتفظ به البنوك طالما أن الأساس النقدي للعملة ليس تحت سيطرته، كما سيفقد البنك المركزي وظيفته التقليدية كملجأ أخير لإقراض البنوك عندما تواجه هذه البنوك أزمة سيولة طارئة طالما أنه لا يصدر العملة، وبالتالي فلا يستطيع أن يقدم قروض مخصومة للبنوك، ومن ثم استخدام سعر الخصم كأحد أدوات السياسة النقدية. أكثر من ذلك فإن أهم أدوات البنك المركزي التقليدية في التحكم في عرض النقود من خلال ما يسمى بأداة عمليات السوق المفتوحة ستنتهي تماما، لسبب بسيط هو أن عرض البت كوين لن يعتمد على الكميات التي يضخها أو يسحبها أي من البنوك المركزية في العالم من السوق النقدي، وإنما يعتمد عرض النقود على العرض الدولي من البت كوين الذي لا تتحكم فيه البنوك المركزية في العالم.

- إن استبدال العملات الوطنية بالبت كوين سيحرم البنوك المركزية، خصوصا البنوك المركزية لدول العالم المتقدم من استخدام أدوات السياسة النقدية غير التقليدية مثل التيسير الكمي، والتي كانت بالنسبة لاقتصادات مثل الولايات المتحدة واليابان أحد أهم أدوات تحقيق الاستقرار الاقتصادي، فعلى الرغم من أن الجميع يهاجم الاحتياطي الفيدرالي بأنه يدمر قيمة الدولار من خلال ضخ تريليونات جديدة منه من خلال تكثيف استخدام الأدوات غير التقليدية للسياسة النقدية، إلا أنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذه السياسات قد ساعدت على استعادة النمو في الاقتصاد الأمريكي وشجعت الطلب في بعض القطاعات مثل قطاع المساكن ودعمت الطلب على السلع المعمرة، فضلا عن مساعدة سوق العمل على تخفيض حجم ونسبة البطالة، ومن دون هذه الأدوات يصبح من الصعب جدا التعامل مع إفرازات أزمة مثل الأزمة المالية العالمية الحالية على الاقتصاد الأمريكي.

- إن احلال البت كوين محل العملات الوطنية لدول العالم سيحرم دول العالم من أن تستهدف معدل الفائدة المناسب لها وفقا لمتطلبات النمو في الطلب الكلي ومعدلات نمو الناتج، على سبيل المثال فإن القواعد النقدية المستخدمة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي مثل قاعدة تايلور التي ينتشر استخدامها على نطاق واسع بين البنوك المركزية للدول الصناعية كوسيلة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي اللازم، وذلك عن طريق تعديل معدلات الفائدة بمستويات محددة وفقا للقاعدة المستخدمة للتأكد من أن مسار النمو الاقتصادي يسير في الاتجاه المستهدف، مثل هذه القواعد المهمة جدا في تطبيق السياسة النقدية للبنوك المركزية في العالم ستختفي باختفاء العملات الوطنية لدول العالم لكي تحل محلها عملة واحدة، التي من المتوقع أن يكون لها معدل فائدة واحد عبر أنحاء العالم، وهو ما يعني ضمنا شلل السياسات النقدية في العالم التي تقوم أساسا على استهداف معدلات الفائدة الوطنية لأغراض تحقيق الاستقرار الاقتصادي.

- إن إحلال البت كوين محل العملات الوطنية سيحرم السلطات النقدية من استهداف التضخم كأحد المستهدفات الأساسية للسياسة النقدية وذلك من خلال التحكم في الكميات المصدرة من العملة المحلية. إذ يتزايد اتجاه البنوك المركزية في دول العالم اليوم إلى استهداف معدل محدد للتضخم يكون أساس عمل السياسة النقدية، وغالبا ما يكون هذا المعدل المستهدف في حدود 2 ـــ 3 في المائة، وعندما ينخفض معدل التضخم عن هذا المستويات المستهدفة، فإن مخاطر الكساد في الاقتصاد الوطني ترتفع، الأمر الذي يدفع البنك المركزي إلى زيادة عرض النقود بهدف رفع معدلات التضخم إلى المستويات المستهدفة، وعندما يرتفع معدل التضخم عن المستوى المستهدف فإن البنك المركزي يعمد إلى تقليل كمية النقود المتداولة للحد من النمو في الأسعار ولجذب معدلات التضخم نحو المستويات المستهدفة لها مرة أخرى، ومن المعلوم أن البنوك المركزية تحرص على ضمان حد أدنى من معدل التضخم سنويا لأسباب اقتصادية عديدة لا مجال لشرحها هنا. بالطبع عندما يتم إلغاء العملات الوطنية ستفقد الدول هذه المستهدفات المهمة في السيطرة على التضخم والتأكد من مساره في الاتجاه المرسوم له.

إن العرض السابق يوضح لنا بجلاء أن العملة الوطنية ليست مجرد شعار وطني أو أداة لنقل القيمة بين المتبادلين، وإنما تؤدي أدوارا أبعد من ذلك بكثير، وعندما تتخلى الدولة عن عملتها الوطنية فإنها تفقد استقلالها النقدي وقدرتها على ضبط إيقاع النشاط الاقتصادي المحلي فيها، لذلك ليس من المستغرب اليوم أن نجد السلطات النقدية في بعض دول العالم تنقض اليوم على البت كوين والعملات الشبيهة في محاولة للحد من استخدامها كوحدة إبراء للذمة مثلما فعلت الصين وروسيا لحماية عملاتها الوطنية من هذه المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها سياساتها النقدية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق