الأحد، مارس ٠٩، ٢٠١٤

اقتصاديات المخدرات

في سنة 2100 قبل الميلاد تقريبا كان الإنسان في أمريكا الجنوبية يمضغ أوراق نبات الكوكا، غير أنه في 1859 استطاع كيميائي أوروبي أن يفصل المكونات الفعالة لأوراق الكوكا، الأمر الذي مهد السبيل أمام اتساع نطاق التجارة فيها، لتأخذ بعدا جديدا على المستوى الدولي، وفي الولايات المتحدة على وجه الخصوص، ولتبدأ مأساة العالم مع تجارة المخدرات في صورها الحديثة.

غالبا ما تتم صفقات التجارة في المخدرات بالنقود السائلة (كاش)، حيث يستحيل أن تتم تسوية معاملاتها من خلال المؤسسات المالية للدولة كالبنوك، لأن ذلك يفتح المجال أمام الدولة لكي تتمكن من كشف مثل هذه الصفقات ومعاقبة من يقوم بها. بالطبع مع تراكم الكاش لدى العصابات التي تشترك في التجارة تبدأ عمليات أخرى لتنظيف هذه الأموال وتحويلها من أموال غير قانونية إلى أموال قانونية، أو ما يطلق عليه ''غسيل الأموال''، التي تتم أيضا من خلال مؤسسات دولية متخصصة لديها أذرعة قانونية قادرة على محو أثر هذه الأموال لتصبح في النهاية نقودا قانونية لا غبار عليها.

أكثر من ذلك فإن التجارة في هذا النوع من السلع تتسم بالتنوع الكبير، حيث إن ارتفاع تكلفة أو أسعار مخدر معين يفتح المجال أمام انتشار مخدر آخر أقل تكلفة ويقدم المنفعة نفسها تقريبا للمستهلك، على سبيل المثال عندما ترتفع تكلفة الهيروين ينتشر استخدام مخدرات أخرى أكثر ضررا بمستهلكيها مثل الكوكايين، ولكنها أقل تكلفة للمستهلك.

تتسم تجارة المخدرات بأنها تجارة تتم في أسواق شبه احتكارية، حيث يصعب أن يكون للمخدرات سوق تنافسية، ذلك أنه مع اتساع عمليات مكافحة تجارة المخدرات، ترتفع تكاليف نقل وتداول وتسويق المخدرات، وتتحول الصناعة إلى صناعة تتطلب رأسمالا ضخما لتسييرها، وهو ما يجعل من رأس المال اللازم أحد أهم العقبات في وجه الكيانات صغيرة الحجم لولوج هذه السوق، فقط الكيانات المنظمة ذات الحجم الكبير هي التي تستطيع أن تستمر في السوق وتتمكن من تمويل عملية نقل وتسويق المخدرات وتكوين العصابات اللازمة للتوزيع، وتأديب المخالفين ومواجهة العصابات الأخرى. لذلك تقع تجارة المخدرات عالميا في الوقت الحالي في قبضة المافيا الدولية. أكثر من ذلك فإنه مع تشديد القيود على تجارة المخدرات ترتفع عمليات ضبط المخدرات، التي تمثل بالنسبة للكيانات التي تتولى عمليات التسويق خسارة كبيرة صافية، بالطبع لا تستطيع سوى الكيانات الضخمة التي تعمل في هذه التجارة تحمل هذه الخسائر والاستمرار في مجال الصناعة.

أكثر من ذلك فإن التجارة في المخدرات تتم في سوق يستحيل تنظيمها أو السيطرة عليها. نحن نتحدث عن سلعة وسوق إذا حاولت الدولة التشدد وحظر المعاملات التي تتم فيها أو السيطرة عليها، فإن التجارة في السوق تنشط على نحو أكبر وتتسع صور التحايل في السوق بصورة أوسع، ومن ثم فإن تشديد الرقابة على تجارة المخدرات يكون دائما بتكلفة كبيرة تتحملها الدولة، الأمر الذي يؤثر في الأموال المتبقية من الإيرادات العامة للدولة للإنفاق على خدماتها الأساسية، أو مشروعات البنية التحتية اللازمة لها أو مشروعاتها الحيوية مثل بناء المستشفيات والمدارس. على سبيل المثال يقدر أن الولايات المتحدة أنفقت 18 مليار دولار في عام 2007 في حربها ضد المخدرات.

يرى البعض أنه لا فائدة ترجى من عمليات منع المخدرات، وبما أنها تأتي دائما بنتائج معاكسة، فقد نادوا بتقنين تجارة المخدرات لتتحول التجارة من السوق السفلية إلى السطح تحت أعين الدولة ورقابتها. بالطبع مثل هذه الدعوات تتجاهل تماما ما يمكن أن يترتب على تحرير تجارة المخدرات من آثار في الأفراد وفي الأسر وفي المجتمع ككل، مع اتساع نطاق العنف والجريمة فيه، وهي مشكلات أخرى تتطلب تكلفة كبيرة مماثلة لتكلفة محاصرة تجارة المخدرات، إن لم تكن أكثر، وهنا المعضلة الأساسية، أي أن ترك السوق حرة أمر مكلف، ومحاولة السيطرة عليها أمر مكلف أيضا.

في دراسة له عن آثار حظر المخدرات في الميزانية الأمريكية يقدر جيفري ميرون أنه لو تم تقنين تجارة المخدرات، فإن الحكومة الفيدرالية الأمريكية يمكن أن توفر نحو 44 مليار دولار سنويا من تكلفة مكافحة التجارة غير القانونية في المخدرات، أكثر من ذلك فإن تقنين تجارة المخدرات سيسمح للدولة بأن تقوم بفرض ضرائب على المعاملات التي تتم فيها والأرباح الناجمة عنها، ويقدر ميرون أن الولايات المتحدة ستتمكن من جمع 32 مليار دولار ضرائب على مبيعات الماريوانا والكوكايين والهيروين وغيرها من المخدرات.

مع انتشار تجارة المخدرات وارتفاع أسعارها تنتشر الجرائم التي لا ترتبط بتجارة المخدرات ذاتها، حيث يلجأ مدمنو المخدرات إلى ممارسة الجريمة للحصول على السيولة اللازمة لتمويل شراء المخدرات لإطفاء الحاجة إلى المخدر، فترتفع جرائم السرقة بين مدمني المخدرات والاعتداءات للحصول على المال، وبالطبع تتحول أموال الجريمة هذه إلى عصابات الاتجار في المخدرات في النهاية.

وعندما ندقق في طبيعة وخصائص الدول التي تتولى عملية زراعة أو نقل المخدرات، نجد أنها بشكل عام تتسم بضعف مستويات الدخل فيها، وهو ما يلجئ السكان في هذه الدول إلى تجارة المخدرات. على سبيل المثال ترتب على الكساد الحالي انتشار خطوط نقل المخدرات في أماكن عدة في العالم، فقد تحولت جزر الكاريبي إلى معبر للمخدرات من مناطق إنتاجها إلى الولايات المتحدة مع ارتفاع المشكلات الاقتصادية لهذه المناطق، وتقدر الولايات المتحدة أن نحو 14 في المائة من الكوكايين المهرب إليها في النصف الأول من هذا العام يأتي عن طريق جزر الكاريبي، وهو ضعف معدل التهريب من هذه المناطق في العام الماضي، وإن كانت هذه المعدلات أقل بكثير من الوضع في الثمانينيات حيث كان نحو 75 في المائة من الكوكايين المهرب إلى الولايات المتحدة يمر عبر الكاريبي. وتحاول الولايات المتحدة حاليا تقديم المساعدات للمنطقة لتحسين قدراتها الأمنية، للحد من عمليات تدفق المخدرات من تلك المناطق إليها.

جميع المؤشرات المتاحة عن معدلات نمو تجارة المخدرات أو حجمها أو معدلات الارتفاع في أسعارها تشير إلى أن الحرب ضد المخدرات هي حرب خسرها العالم حتى اليوم. فبمرور الوقت تزداد أعداد السكان في العالم، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب على المخدرات، ومع كل حملة تتم لمحاربة تلك التجارة، تختفي المخدرات من السوق السطحية إلى السوق السفلية، ما ينعكس في صعوبة الحصول عليها، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، نظرا لارتفاع الطلب عليها وتراجع العرض منها، لعدم قدرة مدمنيها على تركها بسهولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق