الأحد، أغسطس ٢٣، ٢٠٠٩

الكويت في حاجة إلى عاصمة أعمال جديدة

نشر في جريدة القبس بتاريخ السبت 29/8/2009
منذ أكثر من 5 سنوات حدث انقلاب واضح في بلدية الكويت تبعه إعلان التمرد على القيود التقليدية للتراخيص التي تمنحها البلدية للمباني في دولة الكويت سواء السكنية أو الإدارية، حيث بدأت البلدية في انتهاج أسلوب التوسع الرأسي في البناء، ربما، والله اعلم استنادا، إلى أن البقعة المتاحة للبناء في الدولة محدودة، أو ربما، والله أعلم أيضا، لأن أسعار الأراضي في الكويت أصبحت مرتفعة جدا لأسباب عديدة يعلمها الجميع، الأمر الذي اقتضي ابتكار حلول غير تقليدية تجعل من العائد على الاستثمار في العقار أمر مجدي بالنظر إلى التكلفة المرتفعة جدا لمثل هذا الاستثمار، وتعظيم العائد الاقتصادي على التكلفة المرتفعة لشراء المتر من خلال السماح ببناء مساحات أوسع راسيا عليه، المهم أنه ومنذ ذلك الوقت انقلبت أنماط عمليات البناء في الدولة رأسا على عقب.

ليس هناك أي مانع في أن تتبنى البلدية حلولا غير تقليدية لتوفير المساكن في الدولة، سواء أكان ذلك للسكن الإداري أو للسكن الأسري، إلا أنه من المؤكد أيضا، أن ذلك الأمر لا بد وأن يسير في إطار علمي يأخذ في الاعتبار، ومن كافة النواحي، الآثار المتعددة لعملية التوسع الرأسي، حاليا وفي المستقبل، بصفة خاصة السلبية منها، لكي لا يخلق مثل هذا التوسع آثارا جانبية حادة على البنى التحتية للدولة قد تتطلب اللجوء إلى حلول غير تقليدية أيضا، وقد تكون تلك الحلول مكلفة جدا للدولة للتعامل معها، مثلما أصبح عليه الحال الآن في الكويت.

مدينة الكويت، عاصمة الأعمال في الدولة، تشهد منذ فترة ثورة في نوع محدد من المباني، وهو المباني الإدارية، حيث شهدت المدينة زيادة غير مسبوقة في عمليات بناء أبراج السكن الإداري وبأطوال لم تعهدها الدولة من قبل، بلغت في بعض الحالات 70 طابقا، وذلك استنادا إلى التوقعات التفاؤلية التي سادت حول مستقبل الاقتصاد الكويتي منذ 2004، والتغيرات الهيكلية المحتملة فيه، خصوصا بعد أن أعلنت الكويت عزمها على التحول إلى مركز مالي وتجاري مع ما سوف يصاحب ذلك من ضرورة زيادة الطلب على السكن الإداري الأمر الذي يجعل هذا النوع من الاستثمار أمرا مجديا من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية.

ولقد أدت عمليات البناء غير المسبوق هذه إلى حدوث زيادات فلكية في أسعار الأراضي المتاحة لمثل هذا النوع من البناء، وأصبحت المدينة من أغلى الاماكن في العالم تقريبا بالنسبة لثمن المتر المربع من الأرض، وفي ذات الوقت حدث توسع واضح في المساحات المتاحة للتأجير لأغراض الاستخدام المكتبي، غير أنه، للأسف، فإن جانبا كبيرا من هذه المساحات التي أضيفت إلى العرض الحالي من السكن الإداري لم يكن قائما على أساس دراسات جدوى اقتصادية دقيقة حول التوقيت المناسب لهذا التحول في الطلب على السكن الإداري، والنقطة الزمنية التي عندها يأخذ هذا الطلب في التوسع، والحجم السنوي لتدفقات هذا الطلب، ومقارنة ذلك بتدفقات العرض المتاح سنويا من المساحات المتاحة للتأجير لمواجهة هذا الطلب، بحيث لا يكون هناك مساحات فائضة عن هذا الطلب، أخذا في الاعتبار التكلفة العالية جدا لإضافة متر واحد من عرض هذا النوع من السكن، باختصار تحولت مدينة الكويت وفي غضون فترة زمنية قصيرة إلى ما يشبه مدينة نيويورك ثانية بأبراجها الشاهقة الارتفاع، أكثر من ذلك فإن الذي يسير في طرق المدينة يلاحظ أن معظم المساكن القديمة في المدينة يتم تأهيلها حاليا لبدء عمليات هدمها تمهيدا لإقامة أبراج إدارية عليها، على الرغم من تزامن ذلك مع وجود فائض واضح في المساحات الخالية من هذه المكاتب الإدارية، والتي ازدادت حدتها بفعل ظروف الأزمة الاقتصادية، ومن ثم انخفاض الطلب على السكن الإداري، وهو ما يمثل فقدانا للعوائد الاقتصادية المفترضة للاستثمار في هذا النوع من السكن.
من المؤكد أن هذا التحول يعد جيدا جدا من الناحية الاقتصادية، بل على العكس هو أمر مطلوب، شريطة ألا يتم في إطار عشوائي، مثلما يحدث حاليا. فقد أدت عمليات البناء غير المخططة جيدا إلى عمليات بناء لا تستوفي الشروط التي يجب أن تتأكد منها البلدية عادة، بصفة خاصة بالنسبة لأثر مثل هذه التوسعات الرأسية الجديدة على الطلب على التسهيلات المجتمعية اللازمة لهذه الوحدات من مياه وكهرباء وصرف صحي، وخدمات صحية وأمنية، والأهم من هذا كله أمران هما توافر عدد مناسب من مواقف السيارات والذي يسمح باستيعاب الحجم الأقصى من السيارات في أوقات الذروة حتى لا يتسبب مثل هذا الحجم الهائل من مساحات السكن الإداري في أزمة مواقف، والثاني والأهم، وهو الضغط الكبير الحالي، والمحتمل على الطرق ومن ثم على السيولة المرورية المستقبلية. توقعاتي أنه مع استكمال كافة مشروعات البناء الإداري في مدينة الكويت وعندما تعمل تلك المشروعات بطاقتها القصوى فسوف تواجه مدينة الكويت أزمة مرورية خانقة قد تهدد نجاح المدينة في تحقيق الأغراض المستهدفة منها في تسهيل أداء الأعمال في عاصمة أعمال عصرية، ومما يزيد الأمور تعقيدا أن الجانب الأعظم من الطرق الحالية في المدينة قد تم إنشاءه وتخطيطه في الستينيات وذلك في إطار خطة لم تأخذ في الاعتبار اعتبارات التوسع المستقبلي للمدينة، حيث لا تزيد معظم طرق المدينة حاليا عن حارتين فقط.

دعنا الآن نفترض أن السيناريوهات التي قامت عليها مشروعات السكن الإداري الحالية في مدينة الكويت صحيحة، وأن سيناريوهات الطلب المحتمل على المكاتب سوق تتحقق، وأنه بالفعل في يوم ما سيكون المعروض من تلك المساحات حاليا وفي المستقبل هو قيد التشغيل، إذا حدث ذلك فان تلك البقعة الصغيرة التي تمثلها مدينة الكويت حاليا سوف تتحول إلى قطعة من جهنم بسياراتها اللا متناهية وأزماتها المرورية الخانقة، ومن المتوقع أن تعاني مدينة الكويت من الأمراض التقليدية للعواصم القديمة في العالم مثل القاهرة أو نيودلهي أو مكسيكو سيتي .. الخ، وإن كان ذلك على نطاق أوسع أخذا في الاعتبار سيناريوهات العدد المحتمل للسيارات التي ستدخل وتخرج من المدينة يوميا والمساحات المحدودة لتسيير تلك السيارات فيها.

من الواضح إذن الآن أن الكويت تحتاج الآن لعاصمة أعمال جديدة، تدخل بها القرن الحادي والعشرين، ملامح هذه العاصمة لا بد وأن تأخذ في الاعتبار خصائص العاصمة العصرية، بصفة خاصة من حيث البنى التحتية اللازمة لتسهيل عمليات أداء الاعمال فيها، من طرق واسعة ومواقف تتسع لعدد كبير من السيارات في آن واحد، وذلك في إطار دراسات علمية هندسية دقيقة تجرى على هذه العاصمة لكي تحسب بدقة، الطاقة الاستيعابية لشوارعها في أوقات الذروة حاليا ومستقبلا لكي تضمن سلاسة وانسيابية المرور فيها. هذا هو السيناريو الأول لمدينة أعمال المستقبل في الكويت.
ولكن ماذا لو تذمر المستثمرون العقاريون الحاليين في المدينة من أن إنشاء مدينة أعمال جديدة سوف يترتب عليه أن تلحق بهم خسائر هائلة تتمثل في فقدان الجانب الأكبر من الاستثمارات التي قاموا بها في المدينة وأن الدولة سوف تستجيب لهذه الدعوات باعتبارها دعوات عادلة وأنه لا ينبغي أن تخسر الدولة استثماراتها الهائلة التي تمت في المدينة حاليا، إذا حدث ذلك فإنه لا مناص من إعادة تخطيط مدينة الكويت لكي تصبح عاصمة أعمال عصرية وهو السيناريو الثاني لمدينة أعمال المستقبل.

التخطيط الجديدة لمدينة الكويت يتطلب تبني مجموعة من المشروعات الحيوية لكي تسمح بأداء المدينة لوظائفها بالسهولة اللازمة، وأهم هذه المشروعات مترو أنفاق يربط مدينة الأعمال بالمناطق السكنية الرئيسية في الدولة وبحيث تقل الحاجة لدى الجانب الأكبر من رواد المدينة في استخدام السيارات. المشروع الثاني هو إنشاء شبكة أنفاق أرضية وكذلك شبكة كباري علوية تسمح بتوسيع الطاقة الاستيعابية لطرق المدينة من السيارات وبحيث تضمن الانسياب السهل لتلك السيارات بدون عوائق مرورية وبدون تعطيل وقت مستخدمي السيارات في المدينة. أما المشروع الثالث فهو أن تخصص البلدية عدد كاف من قطع الأراضي لأغراض إنشاء مجموعة كبيرة من المواقف المتعددة الطوابق لمواجهة الطلب المستقبلي المحتمل على خدمات توقيف السيارات، والتي من الواضح أنها سوف تكون تجارة رابحة في المستقبل في مدينة الكويت، وبحيث تأخذ في الاعتبار الحلول التي لجأت إليها الدول المتقدمة للتعامل مع أزمة مواقف السيارات من أجل استيعاب أكبر عدد منها في أقل مساحة مكانية ممكنة.

هناك تعليقان (٢):

  1. منذ أيام قامت شركة مودي للتصنيفات المالية بتخفيض تصنيف عدد من البنوك هنا في الكويت. هل لكم من تعليق على هذا الموضوع بشأن المتانة المالية للقطاع المصرفي والاستثماري في الوضع الراهن؟

    ردحذف
  2. شكرا على تعليقك.
    والله كنت من أوائل المعلقين على الموضوع في بدايات الازمة، وخرج علي المسئولين ووصفوني بأنني لا أفقه ما أكتب عنه، ليس أنا فقط، ولكن أيضا صندوق النقد الدولي.

    ردحذف